أنا أفكر إذن أنا موجود أو ما يعرف بـ(الدليل الوجودي الكوجيتو) من أشهر المقولات التي تتردد على الألسن، وهي الدليل الأساسي للفيلسوف الكبير والشهير ديكارت.
حين تَسأل بعض من يُكررها عن مغزى عبارة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" يدور الكلام حول عظمة التفكير، وأنَّه أهم مظهر للوجود، فالوجود إنما يكون ذا قيمة إذا قام بهذا الموجودِ الفكرُ.
فيكون مؤدى كلام ديكارت -في فهم هؤلاء- مدح لعملية التفكير. وهذا الكلام بهذه الصورة جميل.
لكن لم يعنِ ديكارت أبدا هذا المعنى، ولم يدر بخلده، وليس في المقولات الفلسفية "المحضة" مثل هذه العبارات الشعاراتية أبدًا.
مقصود ديكارت هو تقرير هذا الدليل للوصول لليقين.
الفلاسفة قبل ديكارت وأثناءه انتشرت فيهم نزعة الشك المطلق، واللأدرية. بمعنى أنه ليس هناك شيء يقيني أبدًا، فالأديان مشكوك بها وقد تكون من وضع البشر واستغلالهم، والمدركات البشرية قد تكون أحلاما أو أوهاما وما نراه لا يعدوا أن يكون تخيلاً كالذي يحدث للنائم، وبرزت فلسفات إلحادية -ومازالت- فقصد ديكارت إلى تقديم برهان يوصل لليقين.
وبخلاف ما يشاع عن ديكارت من أنه صاحب نظرية الشك! فقد كان ديكارت حامل لواء التخلص من الشك المطلق، نعم ديكارت سَلَّمَ لهؤلاء الفلاسفة الشُّكَّاك شكهم، وأجاز لنفسه الشك في كل ما تعلمه سابقا ليصل إلى طريق يوصله لليقين ومنه إلا إثبات الإلة، وحينها قدم ديكارت برهانه في هذه المقولة.
أنا أفكر إذن أنا موجود.
وترتيب كلامه بالقياس المنطقي يكون هكذا.
أنا (الموضوع) أفكر (المحمول) وهذه هي القضية الحملية الأولى وهي المقدمة الصغرى.
وكل من يفكر (الموضوع) موجود (المحمول) وهذه هي القضية الحملية الثانية وهي المقدمة الكبرى.
أنا أفكر (مقدمة صغرى) + وكل من يفكر هو موجود (مقدمة كبرى) = إذن أنا موجود (نتيجة)
ما الذي قدمه هنا ديكارت؟.
ديكارت يقول كل شيء مشكوك فيه وهذا الدليل أوصل لليقين.
فأنا وصلت لأول يقين وهو يقيني بوجود نفسي وبناءً على هذا اليقين سأصل إلى يقينيات أخرى بعملية تراتبية، وكل يقين يجر ليقين آخر.
هذا ملخص دليل (الكوجيتو) المشهور لديكارت.
وهذا الدليل في الحقيقة يتوجه إليه النقد من جهات متعددة، وقد نقده ابن سينا في الإشارات والنجاه (وكلاهما مطبوع) قبل أن يولد ديكارت بقرون ولو اطلع ديكارت على النقد لما فاه بمثل هذا الدليل.
أما النقد فمن جهات:
منها أن ديكارت قام بخرق كبير في الاستدلال وهو المصادرة على المطلوب ، وهو الوصول إلى النتيجة بنفس النتيجة أو أن تكون النتيجة جزء من عملية الاستدلال.
فديكارت هنا اعتمد في الوصول إلى النتيجة على النتيجة نفسها أو على الأقل على أمر لا يسلم إلا بوجود النتيجة.
وتوضيح هذا:
أن ديكارت جعل التفكير لذاته (التفكير القائم في ذاته) دليلاً يوصل إلى ثبوت ذاته (التي قامت بعملية التفكير).
والتفكير إنما قام في الذات أصلاً، بمعنى أن التفكير قدر زائد بعد ثبوت الذات (الوجود الشخصي لديكارت).
ويتحصل أنه لايمكن التسليم بحصول التفكير إلا بوجود الذات نفسها، فوجود الذات سابق لحصول التفكير.
ومعنى هذا أن التفكير في حقيقته عارض، ولا يمكن أن يصدق في الخارج إلا إذا قام في موجود.
فيكون تلخيص كلام "ديكارت"
التفكير ثابت لذاتي الموجودة (المقدمة الصغرى) + وثبوت التفكير لذاتي الموجود دليل على وجود ذاتي (المقدمة الكبرى) = إذن ذاتي موجودة!
وحتى يتبين أن هذا هو في الحقيقة مؤدى كلام ديكارت دون أن نكون تجاوزنا عليه.
تأمل صغرى قياسه (المقدمة الصغرى):
(أنا أفكر) فهو أثبت الوجود لذاته ابتداءً بقوله "أنا" فأي معنى بعد ذلك لأثبات وجود ذاته؟!
وجهة أخرى في النقد، نقول: إن كان كل شيء مشكوك فيه فكيف كان "أنا" في قوله "أنا أفكر" المشكوك فيها مقدمة مسلمة صحيحة وهي عندك أصلا مشكوك فيها، تأمل.
فاستدلال ديكارت يحتوي -لاشعوريا- على التصديق بحقائق لا زالت حتى الآن في موضع الشك عنده.
وهناك جهات أخرى قدمها متكلموا الإسلام ونُظَّارُه، ولبعض المشتغلين بالفلسفة من المعاصرين أيضا نقد لهذا الدليل كطه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي، غير أن دليل المتقدمين أقوى في النقض وكاف في الحجة.
نبذه عن هذا الفيلسوف :
ديكارت، رينيه (1596 - 1650) Descartes, René
فيلسوف فرنسي وعالم رياضي وفيزيائي وعالم فسيولوجيا. درس في الكلية اليسوعية في لافليش. وبعد أن أدى فترة تجنيده العسكرية استقر في هولندا، الدولة الرأسمالية الأولى في عصره، حيث كرس نفسه للبحث العلمي والفلسفي المنعزل. ولما اضطهده اللاهوتيون الهولنديون إنتقل إلى السويد (1649) حيث مات. وترتبط فلسفة ديكارت بنظريته في الرياضيات، وعلم نشأة الكون، والفيزياء. واحد من مؤسسي الهندسة التحليلية. وفي الميكانيكا نوه بنسبية الحركة والسكون، وصاغ القانون العام للفعل والفعل المضاد، والقانون القائل بأن كم حركة جسمين غير مرنين هو نفسه خلال التصادم كما كان قبله. وهو في علم نشأة الكون وضع مصادرة هي الفكرة الجديدة عن التطور الطبيعي للنظام الشمسي. وقد اعتقد أن دورات الجسيمات هي الشكل الرئيسي لحركة المادة الكونية، وأنها تحدد بناء العالم وأصل الاجرام السماوية. وقد أعطت فرضيته دفعة لتقدم الجدل، برغم أن النمو عنده كان لا يزال مفهوما آليا. ورأي ديكارت في المادة أو الجوهر المتجسد قام على بحوثه الرياضية والفيزيائية. فقد وحد ديكارت بين المادة والامتداد أو المكان. وافترض أن الامتداد وحده لا يعتمد على أي عنصر ذاتي، وأنه مشروط بالخواص الضرورية للجوهر المتجسد. ومهما يكن فإن النزعة الثنائية ترتبط بفيزياء ديكارت المادية. وقطع بأن العلة المشتركة للحركة هي الله. لقد خلق الله المادة مع الحركة والسكون، واحتفظ بالكم نفسه للحركة والسكون في المادة. وجاء مذهب ديكارت في الانسان ثنائيا بالمثل. فقد آمن بأن هناك آلية جسمانية لا نفس فيها ولا حياة، تتحدد في الانسان بنفس مريدة وعاقلة. والجسم والنفس المتغايران يتفاعلان عن طريق عضو خاص هو ما يسمى بالغدة الصنوبرية. ووضع ديكارت في مجال علم الفسيولوجيا بناء ردود الأفعال الحركية، وتعد هذه وصفا من أقدم أوصاف الأفعال المنعكسة. ومهما يكن فإن فسيولوجيا ديكارت المادية تتعارض مع أفكاره عن النفس اللامادية. ففي مقابل الجسم الذي تكمن ماهيته في الامتداد، تقوم ماهية النفس في الفكر. وقد اعتبر ديكارت أن الحيوانات لا تزيد عن آلة متطورة خالية من النفس والقدرة العقلية. وقد حدد ديكارت، على غرار فرانسيس بيكون الغاية القصوى للمعرفة بأنها تحكم الانسان في قوى الطبيعة، واكتشاف واختراع الأجهزة الفنية، وادراك العلل والمعلولات وتحسين ماهية الانسان. والانسان « كي يحقق هذه الغاية عليه أن يرفض الإيمان بأي شيء؛ إلا أن تثبت البرهنة عليه بشكل كامل ». ولا يتضمن عدم الإيمان هذا أن الوجود كله لا يمكن معرفته، بل هو منهج لاكتشاف البداية الأصلية غير المشروطة في المعرفة التي حددها ديكارت بأنها « أنا أفكر إذن أنا موجود ». وقد استخدم ديكارت هذه الصيغة لاستنباط وجود الله ثم استنباط واقعية العالم الخارجي. وكان ديكارت في مبحث المعرفة مؤسس المذهب العقلاني الذي صدر عن فهمه الأحادي الجانب للطبيعة المنطقية للرياضيات. فقد اعتقد ديكارت أن الطبيعة العامة والضرورية للمعرفة الرياضية مستمدة من طبيعة المخ. ومن ثم نسبت قوة خاصة في فعل المعرفة إلى الاستنباط القائم على البديهيات الصادقة المستوعبة بشكل حدسي. وكان لمذهب ديكارت في الصدق المباشر للوعي الذاتي وللأفكار الفطرية (التي أدرج ضمنها فكرته عن الله وعن الجوهرين الروحاني والجسماني) تأثير لاحق على المدارس المثالية، التي تعرضت لهجوم شديد من جانب الفلاسفة الماديين. ومن جهة أخرى فإن رأي ديكارت، المادي في جوهره، عن الطبيعة ونظريته في تطور الطبيعة، وعلم النفس الفسيولوجي المادي عنده، ومنهجه المادي المعادي للاهوت، قد أثرت جميعا في النظرة الشاملة المادية للعالم. من مؤلفاته الرئيسية: "مقال في المنهج" (1637) و"مبادئ الفلسفة" (1644).