"طيور مصر".. بين الحب والعلم
هام على وجهه في البلاد مشرقا ومغربا.. شاخصا بصره إلى السماء.. يبحث عن كل طائر حط على أرض بلاده ولو ضيفا لمرة واحدة، كان يتطلع إلى أن يسد فراغا هائلا في المكتبة العربية لم يملأه أحد من قبل.. فسجل كل صغيرة وكبيرة عن طيور وطنه الحبيب في موسوعته المبهرة "طيور مصر".. إنه الدكتور محمد محمد عناني، الذي قضى أكثر من عشرين عاما يعد موسوعته تلك.. يرصد ويشاهد ويفحص كل طيور مصر المستوطنة والزائرة، فلم تقتصر حياته على كتابة هذا المرجع فحسب، بل شغل نفسه بحكاياتها ليلا ونهارا، وكان يتمنى ألا يوافيه الأجل قبل أن يرى كتابه النور، ولكنه رحل عن دنيانا والكتاب ما يزال تحت الطبع.
وكجميع المخلصين لم يأبه الدكتور عناني بأي منصب أو مال بل أنفق كل ما ورثه من مال وفير على طيوره فاقتنى آلاف الكتب، وقرأ التراث العربي والإسلامي بدقة كما يبدو ذلك جليا في لغته وأشعاره التي يستشهد بها، حتى إنه أورد بابا في كتابه عن أحكام الصيد الشرعية، ويشير ولده د. محمد محمد محمد عناني الأستاذ بجامعة القاهرة في مقدمة الموسوعة أن كاتبنا اشترى قطعة من الأرض في بلدة رشيد وحولها إلى جنة غناء فقد كان يرى في الطير المثل العليا للحرية والجمال والانطلاق.
"أهم ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب هو أنه لا يوجد مؤلف خاص عن طيور مصر باللغة العربية يحوي كل طائر بصورته".. كان هذا سببا رئيسيا دفع الدكتور عناني إلى تسجيل هذه الموسوعة التي اعتمد فيها على مراجع كثيرة كان أهمها طيور مصر للكولونيل مينرتز هاجن -وهو باللغة الإنجليزية- وكان يرى أن عدم الإقبال على تأليف كتب باللغة العربية في هذا المجال يرجع إلى أنها ليست مادة حيوية تدرس في المدارس والجامعات حيث إن أهم ما يعنى به الطالب هو دراسة المادة التي تؤهله لأن ينجح، بخلاف الأوربيين فإن هواية الطيور عندهم وخاصة الإنجليز والألمان من أمتع الهوايات.
المسخرات في جو السماء
الشرشور
ونستطيع أن نقسم هذه الموسوعة العملاقة إلى جزأين: الأول منها اختار فيه الدكتور عناني عناوين متفرقة تحتها معلومات هامة وحيوية عن الطيور وعالمها، مثل الطيور التي يحميها القانون في مصر والتي تزيد على 29 طائرا (في مطلع الستينيات)، ثم ينتقل بنا إلى أهم ما قيل عن هجرتها ونموها بين التكاثر والانقراض، ثم سرد بصورة غير مفصلة لبعض طرق صيد الطيور مع نبذة عن تاريخها.. فيوضح الكاتب أن صيد الطيور يتم بطريقتين، إما بقتلها ببندقية أو ما شابه، أو صيدها حية مثل صيد السمان في مصر بالشباك واستغلال طيرانه منخفضا فوق سطح البحر مباشرة.. أو بطريقة "الدبق" المنتشرة في شمال الدلتا، حيث يلزق على عود الدبق عجينة لزجة تلتصق بأرجل الطائر حينما يقف عليه.
وقد كان قدماء المصريين من أشهر الشعوب المولعة بصيد الطيور، وقد عثر على أكثر من 12 طائرا هيروغلوفيّا مرسوما رسما كروكيا على جدران المعابد والمقابر، وخاصة في سقارة وأهرام أوناس وبني حسن، مثل طيور الكركي والبلبول والقبطي والخطاف المصري والبومة البيضاء، كما وجدت صور للإوز والحمام والنعام والسمان.
ويذكر الكاتب تحت عنوان التكاثر والانقراض بعض المعلومات الطريفة عن غزل الطيور فيقول إنه بحلول الربيع تبدأ الذكور -وهي التي اختصها الله بالجمال دون الإناث- في عرض زينتها وإبراز جمال ألوان ريشها وغنائها بعذب الألحان لاستجلاب قلوب الإناث فيتم التزاوج، ثم تبيض ويفقس البيض خلال 14 يوما إلى شهرين بحسب نوع الطائر، الميجابود Mega pode يضع البيض على الرمل ويتركه لدفء التربة، أما الكوكو فيتطفل على عش غيره ويضع بيضه فيه.. ويخيط العصفور الخياط الذي يقطن الهند ورقتين من أوراق النبات ليضع عليها بيضه.. وقد ثبت أن هرمونا تفرزه الغدة النخامية في جسم الأنثى (البرولاكتين) ينبه إلى إفراز "اللبأ" في بعض الطيور كالحمامة وهو سائل أبيض غليظ القوام تفرزه حويصلة الحمامة وتطعم بها أفراخها وهو أشبه بلبن الأم.
ولكن هذا التكاثر لا يكفي لتعويض انقراض الطيور والذي يرجعه الكاتب إلى عدة أسباب من أهمها: تجفيف الكثير من البرك المائية والمستنقعات مثل بحيرتي إدكو والمنزلة؛ مما أدى إلى اختفاء كثير من الطيور المائية، مثل البط والبكاشنية الخواضة والعصافير المغنية (الهوازج Warblers)، ويأتي الزحف العمراني وتحويل المناطق الزراعية إلى مصانع ليكون سببا آخر هاما لانقراض بعض أنواع الطيور، هذا إلى جانب اختفاء مناطق لغابات كانت تحمل بين أشجارها أنواعا نادرة، مثل الببغاوات وطيور الفردوس.. حيث عدد الكاتب ما يقرب من 28 طائرا ما بين منقرض بالفعل أو متواجد فقط بالعشرات.
الطيور كيف تسمى؟
وتحت عنوان أسماء الطيور يناقش الكاتب الكيفية التي يتم بها تسمية الطيور في اللغات المختلفة ويقول: إن هذا الأمر يعتمد على عدة سبل هي:
(1) من منطق أصواتها: وهذا هو الأصل في التسمية وتشترك في ذلك معظم اللغات فمثلا يسمى الهدهد بالإنجليزية Hoopoe وهذا الاسم اشتقه الإنجليز من صوته وهوhoop-hoop .. حتى في اللغة العربية فإن اسم الهدهد أخذه العرب من صوته وهو الهَدْهَدَة، أيضا طير (الوروار)؛ لأن في ندائه يصيح بما يشبه هذه الكلمة (ور – ور).
(2) من تشابه أصواتها بكائنات أخرى: وهذا في كثير من اللغات مثل طائر القط وسمي هكذا لأن صوته كمواء القط أو في العربية مثل البومة البيضاء والتي تسمى عندنا (المصاصة)؛ لأن نداءها يشبه مص الإنسان للماء.
(3) من بناء أجسامها ومميزات خاصة بها: مثل الشحرور الذي يسمى بالإنجليزية Blackbird لعموم السواد بجسمه أو أبو قرن hornbill، أما اللغة العربية فتحفل بذلك الأمر مثل البط أبو سبلة والتفاحي المسمى هكذا لحمرة صدره.
(4) من أعمالها وحركاتها: مثل Dipper أي المنغمس في الماء وWeaver النساج، وفي اللغة العربية أيضا نجد "المدروان" الذي يدور تقريبا حول معظم الكرة الأرضية، أو الأطيش لما عرف عنه من الطيش والبلادة في إلقاء نفسه من علو شاهق وارتطامه بالماء.
هذا فضلا عن تسميات أخرى بحسب الأمكنة أو بحسب اسم الشخص الذي اكتشفه.. ويختم هذا الجزء بمعلومات لطيفة عن الطيور، أطرفها ما قيل عن الغراب المغرم بالسرقة وإن لم يستفد شيئا من المسروق فهو قد يحمل إلى عشه بعض قطع النقود أو الملاعق والصابون.
كل طير نزل مصر
أما الجزء الثاني من الموسوعة فهو الجزء الأكبر، ويضم ما يقرب من 700 إلى 800 طائر وطئ بقدمه أرض مصر. وقد اعتمد الكاتب بصورة أساسية على كتاب طيور مصر للكولونيل هاجن. بدأ الكاتب بتصويب بعض الأخطاء القليلة التي ذكرت في هذه الموسوعة رغم امتنانه الشديد لجهود هاجن.
وقد ذكر الكاتب في موسوعته ما يقرب من 23 رتبة أوسعها كانت رتبة العصفوريات والتي تضم منفردة 300 طائر تحت فصائل وأجناس مختلفة، مرورا بالرتب متوسطة العدد كرتب الطيور الخواضة والصقور.. نهاية بالرتب التي تضم تحتها طائرا واحدا كالرتبة النعامية ورتبة الببغاوات. كل ذلك مع بيانات مختصرة في سطور عن كل طائر من حيث وصفه، وموطنه، وتوالده، ووجوده في مصر، وأحيانا الاختلاف بين ذكر وأنثى الطائر.
تجول الكاتب مع النادر من الطيور، مثل غراب القيظ، والعصفور فضي المنقار، ومع الطيور الشهيرة التي ترى طوال العام في مصر، مثل الصفير الذهبي، والحمام الجبلي، وأبو الرأس الخواض، والكروان الجبلي. وقد علق الكاتب على بعض الطيور وشكك في تواجدها في مصر مثل العقعق والغطاس أحمر الرقبة، والغراب الحيفي.
أكثر هذه الطيور تهاجر إلى مصر شتاء أو خريفا مثل الشرشور أو الزرزور الأوربي، وبعضها صيفا أو ربيعا مثل سنونو الرمال، والعصفور البيوتي. ورغم الأعداد الهائلة للطيور التي تحط على أرض مصر فإن هناك 8 أنواع فقط هي التي تتوالد على أرضها صيفا.
كل ذلك مذكور في موسوعة الدكتور عناني مع وصف دقيق للسيقان والأصابع والريش وطول الجناحين وأشكالهما وصورة لكل طائر ذكر اسمه بين صفحات الموسوعة، إلا أنه لم يذكر لون الطائر اعتمادا على الطبعة الملونة من الموسوعة. ويختم الكاتب هذا الجزء بعنوان شيق يوضح كيف تنطق أسماء الطيور باللغة العربية مع بعض التراجم لكلمات في الموسوعة الإنجليزية.
وننهي جولتنا مع هذه الموسوعة العملاقة بقول كاتبها رحمه الله:
إن هذا الكتاب كان كالعنقا ء لا يرتجى إليه وصـول
يتمنى أولو الفضائل أن لو كان يوما لديهم حصول
|