الحمام الزاجل
… يمتلك قدرة فريدة في العودة الى موطنه وموضع اهتمام علماء الارصاد بجهازه الملاحي
ابتسام علي ناصر
يعد الحمام الزاجل سيد الحمام في الدنيا دون منازع لما لديه من غريزة حب لموطنه والعودة اليه مهما بعدت المسافات الشاسعة التي يقطعها في ايصال الرسائل وما يؤديه من خدمات جليلة في تاريخ الحروب ونقل اخبارها الى العواصم والامصار.
الدراسات العلمية الحديثة كشفت عن ان الحمام الزاجل لديه القدرة الطبيعية على رسم خارطة المجال المغناطيسي للارض يستعين بها في معرفة طريق العودة الى موطنه وهو ما ينفي القول عن استخدام حاسة الشم لديه لتحديد مساره اثناء الطيران.
وعن تاريخ الحمام الزاجل ذكر رحالة انكليزي في القرن السابع عشر ان سماء الشام خلت من الحمام بسبب وقوع حمامة في شباك صياد اثناء طيرانها.. ووجد رسالة مربوطة في رجلها كان قد ارسلها تاجر اوربي الى وكيله في حلب يخبره فيها بارتفاع اسعار "الجوز" في الاسواق الاوربية ويطلب فيها منه ان يرسل كميات كبيرة منه.. فعمد الصياد الى تاجر اخر صديق له واخبره بفحوى الرسالة.. فقام بدوره بارسال شحنات من الجوز الى اوربا وجنى من العملية مبالغ طائلة.. وعندما شاع الخبر عمد الصيادون الى اصطياد اعداد كبيرة من الحمام لعلهم يحصلون على غنائم مماثلة..
وما يزال الحمام الزاجل موضع اهتمام علماء الارصاد للاستفادة من قدرته على توفير النفقات التي تتطلبها الاجهزة الحديثة مثل الاقمار الصناعية والرادارات والطائرات واجهزة الكشف بالاشعة تحت الحمراء اذ تستطيع حمامة واحدة من الزاجل بجهازها الملاحي الفريد ان ترشد بحاستها التي لا تخطئ الى الكثير مما تبحث عنه مع توفير الكثير من النفقات التي ترصد لعمل تلك الاجهزة.
وقد استخدم الحمام الزاجل لاول مرة في الاغراض الحربية عام 24 قبل الميلاد عندما حاصرت جيوش القائد الروماني "مارك انطونيو" قوات القائد"بروتس" في مدينة"مودلينا" الا ان اكتافيوس الثالث كان على اتصال دائم مع بروتس للاطلاع على صموده من الحصار من خلال الرسائل التي كان يرسلها له بواسطة هذا الطائر.
وللعرب تاريخ طويل حافل مع الحمام الزاجل فهم من اوائل الامم التي عرفت اهميته وتربيته واهتمت بانسابه ووضعت الكتب والدراسات في طبائعه وامراضه وعلاجه.. وكان البريد الذي اسسوه يعتمد على الخيل والجمال والبغال وتبادل الاشارات بالنيران والدخان والطبول والمرايا في ارسال الاخبار والمعلومات العسكرية من والى مركز الخلافة ومع اتساع رقعة الخلافة الاسلامية وزيادة الحروب والفتوحات اضافة الى كثرة الفتن الداخلية والقلاقل ومحاولات انفصال الاقاليم عنها.. ومع ازدياد مصادر الثورة وتنوعها وكثرة مؤسسات الدولة ودواوينها اصبح لابد من وسيلة اكثر كفاءة وسرعة لضمان اقصى فاعلية لعمل ديوان البريد الذي يضمن اتصال اطراف الدولة الواسعة ببعضها وربطها بالعاصمة لذلك ادخل الخلفاء العباسيون استخدام الحمام الزاجل في البريد لما يمتاز به من السرعة الفائقة والسهولة في اعادة نقله الى الاماكن التي ستطلقه مرة اخرى اضافة الى انخفاض كلفة تربيته قياسا بالجياد والابل ولتكاثره السريع وطيرانه دون حاجته الى دليل او مرشد ودقته في الوصول الى اهدافه وكذلك لجمال شكله والفته حتى تنافسوا في اقتنائه والعناية به وتوسيع دوره وتحسين نسله فاخضعوه الى مراقبة دقيقة ونظموا له السجلات الخاصة بحركته وخصصوا له المربين يدفعون لهم الاجور العالية لقاء ذلك.
ويروى ان المعتصم "علم بانتصار جيشه على" بابك الخرمي" واسره له عن طريق الحمام الزاجل الذي اطلقه قائد الجيش من جهة المعركة الى دار الخلافة في سامراء.. وقد وصل ثمن الطائر منه في ذلك الوقت الى 700 دينار وبيعت حمامة منه في خليج القسطنطينية بالف دينار.. لكن الفاطميين تجاوزوا العباسيين باهتمامهم بهذا النوع من الحمام بابتكارهم الوسائل للتغلب على امكانية وقوعه بايدي العدو باستحداث رسائل مرموزة "مشفرة" لا يستطيع العدو التوصل لمعناها.
كان الحمام الزاجل يقطع الاف الاميال يوميا باتجاهات مختلفة في انحاء الامبراطورية الاسلامية وساعده في ذلك سلسلة الابراج التي اقامتها الدولة والتي يبعد الواحد منها عن الاخر حوالي 50 ميلا وكانت مجهزة لاستقبال الحمام واستبداله اذ كانت القوافل الكبيرة تحمل معها اقفاص الحمام وترسل بواسطته الرسائل الى مراكزها في كل مرحلة من مراحل الرحلة لكي ترشد القوافل الصغيرة التي تسير على نفس الدرب او تنذرها عند تعرضها الى الخطر فتطلب النجدة والمعونة من اقرب مركز او انها كانت تخبر المكان الذي تنوي الوصول اليه بالمواعيد ونوع البضاعة التي تحملها لكي يستقبلها التجار المعنيون بالشراء.
وعن الحمام الزاجل احاديث كثيرة.. ففي الحرب العالمية الثانية وعند هجوم الالمان على بلجيكا اصطحب المظليون الحمام خلف خطوط جيوش الحلفاء ثم اطلقوه بعد ذلك مع رسائل عن نتائج عمليات التجسس التي نجحوا في الحصول عليها وفي فرنسا اجريت مؤخرا مناورات اشترك فيها الحمام الزاجل في اطار تدريببي على امكانية زجه في عمليات الاتصال في حالات الطوارئ..
ويشار الى ان الزاجل تولى نقل اسماء الفائزين في اول دورة للالعاب الاولمبية.. وفي عام 1978 انشأ الجيش الاميركي غرفة عمليات لهذا النوع من الحمام على غرار ما اتبع في الجيش الالماني قبل ذلك اما في الحرب الكورية تم استخدام الالاف منه مع الهابطين بالمظلات لتوصيل ما يزيد على مائة الف رسالة الى الاهالي.. وقد اثبتت الاحصائيات التي نشرت ان استخدام هذا الطير خلال الحرب العالمية الثانية لاغراض ايصال المعلومات والتجسس نجح بنسبة 99%.
عند النظر الى هذا الطير الجميل الذي ميزه الله جلت قدرته عن بقية الطيور بمزايا جليلة يقدمها للبشرية.. فمن الجانب يكون مقوسا عن مؤخرة الرأس الى نهاية المنقار ويقف مستكينا رافع الرأس بارز الصدر.. ريشه صلب ومتلاصق واجنحته قصيرة لكنها عريضة وقوية.. لون العينين حمراء او زيتية تحوطهما هالة بيضاء.. اما لونه بين الابيض والاسود والازرق السمائي او قهوائي مشوب بالحمرة او بني فاتح والبغدادي منه له نمو لحمي بارز حول العينين والانف وهو يأتي بعدة الوان ومن الانواع الاخرى الهندي والتركي والكنك والنفاخ والكويتي والشيرازي والبخاري والروماني والريحاني والعبسي والعمري والسوداني والبلجيكي والمفتل واللماع والجاوي والاميركي والهزاز ويتميز بذيله الذي يشبه المروحة والرقاص لمشيته الراقصة على ايقاع السامبا.
والزاجل من الطيور المستأنسة التي يألفها الانسان وتألفه وتعيش بالقرب منه او تحت رعايته.. اما الحمام العادي فيعيش فوق اسطح المنازل والمآذن والاشجار والحمام البري يعيش في الحقول والمزارع يأكل من محاصيلها ولذلك يكون غير مرغوب فيه فيعمدون الى اصطياده.. وبالامكان التمييز بين الذكر والانثى عن طريق الشوكات تحت الذيل فتكون متلاصقة او متقاربة عند الذكر ومتباعدة عند الانثى.. كما يمكن التفريق بينهما عن طريق الشكل الخارجي اذ ان حجم الذكر اكبر من الانثى ورقبته اكثر لمعانا وجسمه اقوى.
|